توظيف القوال و الحلقة في المسرح الجزائري

مسرحية :" الأجواد " لعبد القادر علولة - نموذجا -
د. أحسن ثليلاني
جامعة 20 أوت 1955. سكيكدة (الجزائر)
الملخص :
تناقش هذه الدراسة مسألة تأصيل المسرح الجزائري من خلال استلهام بعض أشكال التعبير المسرحي التي يزخر بها التراث الشعبي ، و يتعلق الأمر بتوظيف شكل القوال و الحلقة ، و هو التوجه الذي تبناه المسرح الجزائري منذ السبعينات من القرن الماضي ، و توجت مسيرته على يد المرحوم عبد القادر علولة ، الذي استطاع أن يقدم تجربة متميزة في ثلاثيته الشهيرة : " الأقوال " و " اللثام " و " الأجواد " هذه المسرحية الأخيرة اتخذناها نموذجا تطبيقيا في هذه الدراسة.
Résumé:
Cette étude traite la question de l'enracinement du théâtre algérien à travers l’utilisation de certaines formes d'expression théâtrale , qui se trouve dans le folklore , il s’agit de l’utilisation du Goual et de la Halka , cette forme qui a été adoptée par le théâtre algérien depuis les années soixante-dix du siècle dernier , et a culminé sa carrière entre les mains du défunt Abdelkader Alloula , qui était en mesure de donner une expérience distincte dans sa célèbre trilogie : «Elagoual » et «Ellitham » et « Alajwad " cette dernière pièce de théâtre est celle que nous avons pris comme modèle a appliqué dans cette étude.
مهاد: الجذور المحلية الجزائرية لمسرح الحلقة
ارتبط شكل مسرح الحلقة في الجزائر بنشاط رواة الأقوال والقصص الشعبي، مثل المداح والقوال والقصاد، فجاءت تسمية مسرح الحلقة " نظرا للشكل السينوغرافي للعرض الذي يكون بحسب تجمع المستمعين – المتفرجين، وهو إما أن يكون حلقيا، أو يشبه حدوة حصان "[1]، وفي تحديده لشخصية المداح يرى (بورايو، عبد الحميد) أن هذه التسمية تستخدم في الجزائر للدلالة على فئة من مؤدي المأثورات الشعبية في الأماكن العامة والمناسبات الدورية، مثل الأسواق الأسبوعية والأعياد الدينية وطقوس تقديس الأولياء، حيث يقدم المداحون عروضهم في الأماكن التي تحتضن مثل هذه التظاهرات وفي الساحات العامة، إضافة إلى المقاهي وأحواش البيوت في مناسبات الأفراح. أما عن مصدر التسمية، فهي تعود إلى كون هؤلاء المداحون يحملون مادة غزيرة تتعلق بمدح الرسول – ص – والأنبياء، وبعض الصحابة والأولياء الصالحين والزهاد، إلى جانب ما تحمله التسمية من إشارة إلى قداسة المضمون الذي يرويه المداح، وهو ما يضفي على عمله مكانة عالية ضمن الممارسات الثقافية الشعبية القائمة .
ويميز الباحث (بورايو، عبد الحميد) بين ثلاث فئات من محترفي الرواية الشعبية في الجزائر،و هم أولا : المداحون أو رواة الحلقات العامة في تجمعات الأسواق والمناسبات العامة، وثانيا : القوالون، وهم جماعة من مؤدي الشعر الشعبي الذين يلقون أشعارهم أو يروون قصائد غيرهم أمام الناس، وثالثا راويات البيوت وهن من النساء اللواتي تخصصن في رواية الحكايات الموجهة للأطفال والتي يطغى عليها الطابع الخرافي.[2] ويسمى هذا النشاط عادة (محاجية).
غير أن هذا التحديد المنهجي الدقيق، لم يمنع من وجود خلط بين هذه التسميات، حيث يشير (بورايو، عبد الحميد) في مرجع آخر إلى أن كثيرا من الأوساط الشعبية في الجزائر تستخدم اسم القوال كمرادف للمداح، بينما كانت الإدارة الاستعمارية الفرنسية زمن احتلالها للجزائر تثبت على تراخيص المداحين والقوالين اسم (التروبادور) أو (الشاعر الجوال).[3]
وقد تختلط هذه التسميات الجزائرية مع ما يشبهها في بعض البلدان العربية، وهو ما يشير إليه (كمال الدين، محمد) عندما يذكر أن المداح والمقلد والحكواتي العربي هي أسماء تستخدم للدلالة على فن القصاصين الذين تميزوا بقدرتهم على عرض الحكايات وتقليد شخوصها سواء في الحركة أم في الحوار.[4]
ومن الواضح هنا تركيز الدارسين على وظيفة الحكي باستخدام النثر والشعر، ووظيفة المحاكاة بالتمثيل والتشخيص في نشاط رواة القصص الشعبي، فمهما تعددت التسميات من مداح أو حكواتي مثلا فإن الصفة المشتركة بينهما تتمثل في كون كل واحد منهما يحكي ويحاكي مع الإقرار بوجود اختلافات في شكل هذا الحكي والمحاكاة، لعل أبرزها تلك الحلقة التي يؤلفها الجمهور الجزائري حول المداح أو القوال، وهي العنصر الغائب - أحيانا - في نشاط الحكواتي المشرقي بوصف هذه الأنواع هي أنواع فنية عربية ذات صبغة شعبية .
أما الباحث اللبناني (حداد، يوسف رشيد) فإنه أراد التدقيق أكثر في المصطلحات المستخدمة للدلالة على هذا الشكل المسرحي التراثي، فحاول أن يحدد له الأسماء ويبين له الوظائف كما يأتي:
1-حاكية :حكواتي، مقلد.
2-سامر: راو في السهرات.
3-محدث: الذي يروي حوادث وعروض أسطورية وحكايات من القصص القرآني.
4-القصاص: شكل احتفال شعبي.
5-مداح:أو مقلد مثل الحاكية.
6-الحاكي:مرفه،مضحك،شاعر منشد، مشعوذ، مغني، راوي حركات وسير وانتقادات قدحية ومواعظ شعبية.[5]
إنه لا يذكر القوال، لكنه وعلى الرغم من إقراره بكون المداح يتجاوز فعل السرد إلى فعل التقليد أي التمثيل والتشخيص، إلا أنه - (حداد ،يوسف رشيد) - يفضل استخدام مصطلح الحاكي (conteur) للدلالة على كل هذه التسميات، وذلك راجع – فيما تراه تمارا ألكسندروفنا بوتيتسيفا - إلى أن هؤلاء الرواة الجوالين قد اشتهروا في التاريخ العربي باسم (المحاكين) الذين كانوا يجوبون البلاد الإسلامية منذ قديم الزمان، فكان الواحد منهم يسمى (المكلا) في تركيا و(القوال) في الجزائر، و(الحكواتي) في مصر وسورية، و(المحدث) في العراق، ويسمى (إيميادزين) في سواحل الأطلسي الوسطي، أما في إيران فيسمى (النقال) أو (التقليدجي) وعند شعوب إفريقيا الغربية نجده باسم (هريوت)، ورغم اختلاف الأسماء إلا أن مهنتهم جميعا هي عرض القصص ممزوجة بالتمثيل.[6]
والحقيقة أن رواية القصص الشعبي ظاهرة قديمة في المجتمعات العربية الإسلامية، لكن هذه الظاهرة قد تطورت عبر العصور لتصبح عملا احترافيا بعدما كانت مجرد هواية، ومع تطورها اكتسب ممتهنوها تسميات معينة، وذلك بحسب صفات الحاكي وطبيعة المادة المحكية، ونوعية المتلقين، وهو ما يذهب إليه (بورايو، عبد الحميد) عندما يشير إلى أن ظاهرة رواية الأقوال الشعبية قد عرفها المجتمع الجزائري منذ قرون، حيث كانت مجرد هواية لدى بعض الرواة، ثم أصبحت عملا احترافيا يقوم به أشخاص لهم مواصفات محددة، يقدمون عروضهم لجمهور مخصوص وفق إجراءات وطقوس معينة وفي مناسبات مبينة بمراعاة الزمان والمكان.[7]
إن صفة الاحتراف المقصودة في نشاط القوال أو المداح تعني التخصص في رواية الأقوال الشعبية فهي مهنة معترف بها، حيث يحرص القوال أو المداح على تعلمها، وحفظ مادتها، وإتقان صنعتها، حتى يتمكن من إمتاع جمهوره بما يعرضه عليهم من تراث فني، فيحصل منهم على مقابل مادي يمثل مصدر دخله.
وفي وصفه لعروض المداح – والقوال - في الجزائر، يذكر (علولة، عبد القادر) أن المتفرجين من عامة الناس ومن أعمار مختلفة ،كانوا يوم السوق الشعبي مثلا يتحلقون واقفين أو جالسين على الأرض في شكل دائري قطره ما بين خمسة إلى إثنى عشر مترا، وداخل تلك الدائرة أو الحلقة، يقدم لهم المداح عرضه مستخدما حركات جسده ملونا طبقاته الصوتية ومحركا عصاه في حين يرافقه بالعزف عازف واحد أو أكثر، والسمة البارزة في هذا العرض هي أن المداح يروي القصة ويمثل حوار شخوصها مستخدما الكلمة وحسب، فالكلمة هي الرابطة الأساسية في التواصل بين المداح وجمهوره، بواسطتها يجلب انتباههم ويدعوهم إلى تخيل الحوادث والشخصيات التي يعرضها مستعينا بإكسسوارات بسيطة جدا كالعباءة والحذاء أو مجرد حجر صغير يضعه في مركز الحلقة ليوحي به للمتفرجين المأخوذين في قبضة الكلمة الساحرة بأنه– الحجر – منبع مسموم أو حيوان مفترس، أو امرأة هجرها زوجها .أما مدة العرض فهي تمتد من ساعتين إلى أربع ساعات، ويمكن للمتفرج خلال ذلك إيقاف المداح في أية لحظة من العرض لطلب إعادة مقطوعة أعجبته، أو لتصحيح بيت شعري من أغنيته، وقد يتوقف المداح من تلقاء نفسه لجمع الدراهم التي يجود بها المتفرجون عليه في مقابل الاستمتاع بعرضه المسرحي. والملاحظ هنا أن المداح والمتفرج يشتركان كلاهما وبصفة دينامية وجدلية في ترتيب العرض، حيث يقوم المداح بالسرد والتمثيل في الوقت نفسه، حارصا على إضفاء الحياة والحركة على شخوص عرضه باستخدام لمسات وعبارات موحية، وفي غالب الأحيان يكون المداح شاعرا ومؤلفا للنص الدرامي الذي يعرضه، إنه في مركز الحلقة هو الراوي والممثل والمغني، يمسرح الكلمة،و ينقش العرض بمختلف جماليات القول من تلميح وإشارة وتصريح وتهويل، كل ذلك بهدف إثارة التصور المبدع للجمهور.[8]
وإننا يمكن أن نقدم تفاصيل أخرى إضافية، عن نشاط المداح – والقوال – من خلال إيراد ما يذكره (بورايو، عبد الحميد) حيث يرى أن هذا الراوي الشعبي يختار المناسبات الملائمة لنشاطه كالتجمعات العامة في الأسواق واحتفالات الزواج والختان وإقامة النذور للأولياء، فيفسح له مجالا على شكل دائرة تكفي لأدائه الحركي والتمثيلي، وفي حين يتحلق حوله الحضور، يأخذ هو مكانه في مركز الحلقة واقفا أو مقرفصا، وذلك حسب متطلبات الأداء، الذي قد يؤديه بمفرده، وقد يرافقه في ذلك مساعد أو اثنان، يتبادلون فيما بينهم الرواية والعزف مستخدمين الرباب والقصبة والدف، ويصاحب العزف إنشاد المغازي، وهي قصص منظومة وملحنة يزاوج فيها الراوي بين الإنشاد والتفسير، وقد يضيف على ذلك فيستشهد ويعلق مستعينا بما أوتي من مواهب في التعبير بالكلمات والحركات، مستثمرا كل ما يحمله من مهارات خياله الإبداعي وقدرته على الأداء الدرامي، وهو في تقمصه لشخوص القصة يخلق مشاهد مسرحية يقوم فيها بدورين أو أكثر، مستخدما الحركة والحوار، زيادة على دوره الأساسي كراوية ومعلق على أحداث القصة وشخوصها، ويبرع بعض الرواة في استخدام العزف كعامل مساعد على تصعيد توتر المواقف الدرامية في القصة، وتصوير المشاهد القصصية، والإيحاء بالأجواء الداخلية والخارجية التي يعيش فيها الشخوص.[9]
وقد لا يكتفي المداح بعرض ما تقدم من محاور، فيتجاوزها إلى تقديم مقطوعات غنائية أو موسيقية، بالإضافة إلى رواية الأشعار الشعبية مازجا بين نشاطه كراو للقصص الشعبي وبين نشاط القوال في رواية الشعر الشعبي، وربما يكون هذا ما أوقع نوعا من اللبس بين تسمية المداح وتسمية القوال عند كثير من الدارسين .
إن الدارس لظاهرة المداح والحلقة، لا بد وأن يلاحظ توفرها على كل عناصر ومقومات العرض المسرحي، حتى وإن لم توجد هناك بناية مسرحية مخصوصة لاحتضان العرض بالمفهوم الغربي، لأن هذا الحاكي الشعبي قد كان في الحقيقة :" يحمل المسرح على كتفيه، إنه هو الذي يذهب إلى مكان العرض لا الجمهور، ثم يشكل من الفضاء الطبيعي فضاءه المسرحي...الذي يتحول أثناء العرض إلى فضاء مسرحي خاص ومحترم من قبل الجمهور، وعندما ينتهي العرض تختفي الخشبة. "[10]
لقد قام الفن المسرحي بالمنظور الأرسطي على ثلاثية التمثيل والتشخيص والفعل، وهي الثلاثية التي نلحظ حضورها الجلي في العرض الذي يقدمه المداح لجمهور الحلقة التي تحيط به، فهو لا يكتفي بسرد الحوادث التي يرويها ولكنه يعمد إلى محاكاتها، وتشخيص حركات أبطالها مجريا الحوار على ألسنتها بطريقة فنية، ولعله من المفيد الإقرار هنا – بما يخلص إليه (بن تميم، علي) - بأن التراث العربي الإسلامي قد خلا من وجود المصطلحات الدالة على الظاهرة الدرامية مثلما هي معروفة في المسرح الإغريقي والأوروبي كمصطلح الممثل ومصطلح الدراما، لكن حركة النقد المسرحي العربي قد وجدت في مصطلح الحكاية* ما يشير إلى عدد من الأداءات الدالة على مختلف فنون الفرجة الشعبية في التراث العربي الإسلامي، ثم تراجع مصطلح الحكاية ليحل محله مصطلح اللعب الذي استطاع أن يعبر عن الأداء (اللعب) وعن المؤدين (اللعابون) وعن مكان الأداء (الملعب).[11]
و لذلك نجد أن شكل الحلقة المترتبة عن نشاط المداح أو القوال قد فرض استخدام مصطلح (مسرح اللعبة) كبديل (لمسرح العلبة) أي المسرح الأوروبي المعروف بمسرح الطريقة الإيطالية والذي ورث تقاليده عن المسرح اليوناني بقواعده الأرسطية والموسوم بكون العرض فيه يجري داخل علبة، والعلبة هنا تعني الخشبة بجدرانها الأربعة، ثلاثة منها حقيقية، والرابع حائط "وهمي ممتد على طول خط الستارة الأمامية . ومن خلال هذا الحائط (المتخيل)، يشاهد المتفرجون الأحداث الممثلة على المسرح كما لو أنها نسخة من الحياة – أي أن التمثيل ينبغي أن يجري بمعزل عن المتفرجين، المفترض عدم وجودهم . ومن ثم يتولد الإحساس الإيهامي بالواقع ."[12]وإذا كان (مسرح العلبة) يقوم على تفعيل عنصر الإيهام هذا،، فإن (مسرح اللعبة)،يقوم على تكسير الإيهام من خلال تحطيم هذا الجدار الفاصل بين الممثلين – اللاعبين، وبين المتفرجين المتحلقين والمشاركين بطريقة أو أخرى في تأسيس اللعبة المسرحية وتفعيلها والاندماج فيها .
وعلى الرغم من غياب الديكور التجسيدي داخل الحلقة، إلا أن المداح يبدع في (اللعب) أي التمثيل باستعمال وسائل يديوية بسيطة مثل العصا أو الحبل أو الدف أو آلة الكمانجة لتساعده على تشخيص المشاهد، وتبقى الكلمات هي المادة الأساسية للتعبير بمساعدة حركات اليدين والرجلين وتقاسيم الوجه وتغيير الطبقات الصوتية وإلقاء الأناشيد مصحوبة بنقرات الدف أو اللحن الموسيقي،حيث يصف (حداد، يوسف رشيد) تلك اللغة الحركية بقوله: "إنه يقدم الشخصيات كما هي ويصف حركاتها وسكناتها... حتى إننا لا نستطيع إدراكها إلا بالاستماع الجيد للحاكي الذي يعطي لكل شخصية صوتها وميزتها، ويسجل توقفا زمنيا بين إجابات الشخصيتين مستعملا تنويع الطبقات الصوتية والحركات المختلفة... وعندما تكون المعركة دائرة بين بطلين معروفين لدى المتفرجين، فإن الحاكي يعمد إلى لفت الانتباه إلى ذلك، ومع كل تغيير للشخصية يغير صوته وعبارته ويسمى الذي يتكلم."[13]
إن نشاط القوال أو المداح وهو يقدم عرضه لجمهوره من الناس الملتفين حوله في شكل حلقة يكشف عن قدراته المسرحية العالية، فهو ممثل موهوب يمتلك مواهب وكفاءات فنية عالية، تمكنه من تقديم عرض مسرحي مكتمل العناصر والمقومات، من موضوع يتمثل في القصة الممثلة وطريقة عرضها بالانتقال بين ثنائية الحكي والتمثيل، باستعمال الكلمة والحوار الافتراضي والحركة والموسيقى، إضافة إلى توفر أحد أهم مقومات المسرح ألا وهو الجمهور ممثلا في تلك الحلقة من المتفرجين المندمجين في العرض والمشاركين في إقامته .
وسواء استخدمنا مصطلح المداح أو القوال، فإن شكل الحلقة يوجب حضور كل منهما، بوصفه بعدا سينوغرافيا، وعلاقة مميزة بين العرض والجمهور، إن لهذين الشخصيتين(المداح والقوال) حضورا كبيرا في التراث الشعبي الجزائري، بالإضافة إلى توظيفهما الفني في عديد التجارب المسرحية الجزائرية التي راهنت على البحث عن أشكال مسرحية في التراث، الأمر الذي من شأنه أن يكون بديلا محليا أو تراثيا للشكل المسرحي الغربي بقواعده الأرسطية المعروفة، ويعد المسرحي الجزائري عبد القادر علولة أحسن من راهن على تقديم تجربة مسرحية تراثية، من خلال توظيف المداح والقوال والحلقة بوصفها هيكلا مسرحيا متكاملا.
مسرحية الأجواد[14] ، أو التجربة الإبداعية الأصيلة للمسرح الجزائري: راهنت التجربة المسرحية للراحل عبد القادر علولة ، لا سيما في ثلاثيته الشهيرة : ( الأقوال ) و ( الأجواد ) و ( اللثام ) ، على تقديم شكل جديد في الممارسة المسرحية ، يمكن أن نسميه : مسرح السرد التمثيلي ، و هو شكل حاول تجاوز نمطية المسرح الأوروبي، وذلك بالمراهنة على توظيف أحد أبرز أشكال التعبير المسرحي في التراث الشعبي الجزائري، ونعني به شكل القوال و الحلقة.
و الحقيقة أن مسرحية ( الأجواد ) تعد من أهم الإبداعات المسرحية الجزائرية، لقد قدمت هذه المسرحية– كما يذكر (مباركي، بوعلام) – من قبل مسرح وهران الجهوي في سبتمبر 1985، وبمجرد عرضها تحصلت في العام نفسه على جائزتين متتاليتين، هما : جائزة أحسن تمثيل* بمهرجان قرطاج الدولي بتونس، ثم جائزة أحسن نص وأحسن عرض في المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر العاصمة، كما نالت جائزة أحسن عرض متكامل في الملتقى الأول للمسرح العربي بالقاهرة عام 1994.[15]
ومن المؤكد أن لمثل هذه التتويجات المتتالية دلالاتها المتعلقة بالسمو الفني لهذه المسرحية، التي كثيرا ما وصفت بكونها علامة فارقة في (الريبيرتوار) المسرحي الجزائري منذ نشأته وإلى اليوم. وقد لا يختلف باحثان في أن تجربة عبد القادر علولة المسرحية ذاتها قد بلغت قمة نضجها الإبداعي في مسرحية (الأجواد) بالذات، وأن أهم ظاهرة فنية لفتت انتباه النقاد في هذه التجربة هي حسن توظيف أشكال التعبير المسرحي في التراث الشعبي عموما، وتوظيف القوال على وجه الخصوص .
يقول عبد القادر علولة في تقديمه لهذه المسرحية :" فيما يتعلق بعنوان (الأجواد)، إنه يعني بالمعنى الأولي والحرفي الكرماء . فهو يلخص بالنسبة لي، إلى حد ما، الفكرة المركزية، أي جوهر المسرحية . هذه الأخيرة هي عبارة عن جدارية تمثل الحياة اليومية، أو بالأحرى، بعض اللحظات من حياة الجماهير الكادحة، والناس البسطاء . إنها مناظر إنسانية نصادفها كل يوم . تحكي هذه الجدارية وتكشف بدقة كيف يتصف هؤلاء الناس المغمورون والبسطاء و(المحقورون) والذين لا نكاد نلحظهم بالجود. وكيف يتكلفون، بتفاؤل كبير وبإنسانية متأصلة، بالمشاكل الكبرى للمجتمع، طبعا ضمن حدودهم. أما فيما يخص البناء العام، فإن المسرحية تضم ثلاثة مواضيع درامية تستقطعها أربع أغنيات . ويستقل كل عنصر من عناصر المسرحية بذاته من حيث الموضوع، في حين يرتبط الكل بما يمكن أن أسميه : (العناصر الأساسية للمضمون) عن طريق أنصال خلفية ."[16]
إن مسرحية (الأجواد)* تراهن على إبراز عديد القيم الأساسية للمجتمع، من خلال تشخيصها في ثلاث لوحات سلوكية لشخصيات هامشية، لكنها إيجابية خيرة، تجسد النموذج الحي والقابل للاقتداء في التضحية والتضامن، تعرضها المسرحية بأسلوب فني استخدم فيه عبد القادر علولة السرد بتوظيف القوال ممهدا للحوادث، ومعلقا عليها، وراويا لبعضها، ورابطا بين اللوحات بالكلمة المعبرة، كما استخدم حركة الفعل الدرامي في مواقف الحوار أو مناجاة الشخصية لنفسها، إضافة إلى استخدام الأغنية الشعبية لتفعيل التأثير في المتلقي .
تعرض المسرحية في لوحتها الأولى معاناة العمال البسطاء، فتختار لذلك شخصيتين، تتمثل الأولى في عامل نظافة، يدعى (علال الزبال) الذي يزيل القمامة، ويكنس الأوساخ من الشوارع والساحات العامة بكل تفان وإخلاص ومحبة لعمله وللناس، فلا يضجر ولا يتذمر، بل نراه وهو يزيل تلك الأوساخ، يفضح السلع المغشوشة ويطالب بخفض الأسعار حتى تكون في متناول ذوي الدخل الضعيف، كما لا يتردد في كشف دعمه للقطاع العام بمواجهة بعبع القطاع الخاص، إضافة إلى كونه لا يتوانى عن إعلان تضامنه مع الفقراء والبسطاء، ويسعد بانتمائه الصادق إليهم، وذلك انطلاقا من وعيه الطبقي بشرف الشريحة التي يمثلها معهم .
غير أن اللافت للنظر هو أن المسرحية لا تقدم لنا شخصية (علال الزبال) من خلال موقف صراعي مع آخرين يتطلب الحركة والحوار كما هو معروف في تقاليد الدراما، ولكنها – المسرحية – توظف القوال وتكشف عن أبعاد شخصية (علال الزبال) من خلال عرض سردي مكتوب بأسلوب الشعر الشعبي القابل للإلقاء والغناء يؤديه القوال :
" علال الزبال ناشط ماهر في المكناس .
حين يصلح قسمته ويرفد وسخ الناس.
يمر على الشارع الكبير زاهي حواس .
باش يمزح بعد الشقاء يهرب شوى للوسواس. "[17]
أما الشخصية الثانية التي تعرضها المسرحية في هذه اللوحة الأولى، فتتمثل في (الربوحي الحبيب) الذي يعمل حدادا في ورشة البلدية، ولكن بساطة عمله وموقعه الاجتماعي، لا تمنعانه من المشاركة فيما يخدم المصلحة العامة للمجتمع، ومن ذلك محاولته إنقاذ حيوانات الحديقة العامة للمدينة من الإهمال والجوع، وبعد فشله في إقناع مسؤولي البلدية بالاهتمام أكثر بتلك الحيوانات، يتطوع (الربوحي الحبيب) رفقة شباب الحي الشعبي الذي يسكنه، فيتسلل ليلا تحت حراستهم، ويتولى إطعام الحيوانات بنفسه بما يجود به الناس من طعام، وبموازاة تحسن أحوال الحديقة وعودة الصحة والنشاط إلى حيواناتها، يكشف حارسها الليلي بعدما تعرف أخيرا على فاعل الخير تحت جنح الظلام (الربوحي الحبيب)، أن بعض مسؤولي البلدية كانوا يختلسون المال من الميزانية الموجهة لتربية حيوانات الحديقة، في حين أن بعضهم الآخر كان يسرق الطعام المخصص لتلك الحيوانات البائسة.
والملاحظ أن السرد يطغى هنا أيضا على أسلوب المسرحية في تقديمها لهذه الشخصية سواء على لسان القوالين، أو على لسان الشخصيات نفسها، مثل هذا المقتطف الذي يحاول رسم أبعاد شخصية (الربوحي الحبيب):
" الربوحي الحبيب في المهنة حداد، خدام في ورشة من ورشات البلدية . في السن يعتبر كبير مادام في عمره يحوط على الستين . في القامة قصير شوية . السندان والمطرقة خلاو فيه المارة . لونه أسمر بلوطي . وسنيه واقفة جدرتها تبان وزوج غايبين . شعره أشهب كرد مبروم والشيب ما ترك شعرة ..."[18]
وكذلك هذا المقتطف الذي يصور قرار (الربوحي الحبيب) التكفل بحيوانات الحديقة رفقة شباب الحي، وذلك بعدما سردت علينا المسرحية مساعيه الشاقة والخائبة مع مسؤولي البلدية :
" في ختام الدراسة خاد الربوحي الحبيب موقف ودبر على حل للنجدة نظم حلقة تضامنيةودخل معاه شبان الحي في العملية . عادو كل يوم وقت المغرب يلموا كل ما يحصلوا عليه من مأكولات : لحم، دجاج، عظام، قمح، نخالة، خبز، حشيش، خضرة، وفاكية، وحين ما يطيح الليل يدخل الربوحي سريا للحديقة يتشبط ويتلبد المغبون باش يفرج على مسجونين الحديقة وراه تابعينوا قطط وكلاب الحومة . أكثر من شهر وهو يجيبلهم في الماكلة في المهمة داخل الجنان يتلزم عليه يجري ويتخبا من وراء الشجر خوفا . إذا العساس اللي يبات يحضي يلقفه وتفشل الحركة . الحيوان والفو الربوحي الحبيب، عادو يحبوه ويشموا ريحته من بعيد، عادوا كل ما يوصلهم يفرحوا بيه أحسن رحاب ..."[19]
إن السرد ليطغى حتى إننا لا نكاد نجد موقفا تتناغم فيه الحركة مع الحوار، سوى في موقف لقاء حارس الحديقة (العساس) مع (الربوحي الحبيب)، وهو حوار لا يخلو هو الآخر من حضور السرد، خاصة عندما يتولى (العساس) سرد تداعيات قضية إطعام الحيوانات على مستوى مصالح البلدية ويكشف لزميله (الربوحي الحبيب) الاختلاسات التي وقعت بخصوص هذه القضية .
ومن الواضح أن عبد القادر علولة قد قصد من خلال شخصية (الربوحي الحبيب) تقديم نموذج إيجابي خير آخر، يعاضد به شخصية (علال الزبال) في تكفل البسطاء بإيجاد حلول إيجابية للمشاكل العامة للمجتمع .
أما في اللوحة الثانية، فإن المسرحية تعرض على لسان (القوال) وبأسلوب يتناغم فيه الشعروالغناء معاناة (قدور) اليومية، إنه بناء يعمل بعيدا عن عائلته التي يشتاق إليها كثيرا، وخاصة ابنته (مريم) التي من شدة نأيه عنها فقدت إحساسها بأبوته وصارت تناديه (عمي)، وهو ما زاد في ألمه، وإحساسه بالظلم الاجتماعي، فهو يشيد السكنات والمباني في حين أن أسرته تقيم في مسكن مهدد بالانهيار، ومع ذلك يبدي (قدور) وزوجته (فطيمة) صبرا وقناعة فيداريان الألم بالأمل، ويمنيان النفس بغد أفضل :
" ابنى وعلا، كب جهده في البغلي والياجور.
ترك بالجمعة الشانطي قاصد لداره يزور.
وحش المرأة والأولاد ثقيل في صدره كالكور.
في خاطره طعيمة وحنان مراته فطيمة.
قال : نشوف أولادي نمحي التعب نفاجي الغمة .
نغطس في الجو الأهلي نشرب جغيمة .
طالت المسافة نسف طويل ما قال كلمة .
باقي يفكر في الصغيرة بنته مريمة .
اللي تنساه تنادي له عمي كاليتيمة.
بالحلوة يجلبها يدوب لها الحشمة . "[20]
كما تصور المسرحية في هذه اللوحة الثانية قيمة التضحية الجسيمة والصداقة المؤثرة التي تجمع بين عاملين بسيطين بإحدى الثانويات وهما (عكلي) و(منور)، حيث يقرر الأول إهداء هيكله العظمي بعد وفاته للثانوية، ويوصي صديقه الحميم (منور) بالحرص على تطبيق هذه الوصية وهو ما نراه مجسدا على الخشبة، عندما يلبي (منور) -مثل كل مرة- دعوة (المعلمة) وهي أستاذة مادة العلوم الطبيعية بإحضار الهيكل العظمي لصديقه (عكلي) إلى القسم حتى يتم شرح درس: (مكونات الهيكل العظمي) للتلاميذ من خلاله، فيتقاطع خطان في هذا الموقف الدرامي الأول سردي يتجه نحو الماضي من خلال استرجاع (منور) ذكريات صداقته الحميمة مع (عكلي) باستخدام ما يسمى بتقنية (الفلاش باك)، والثاني حواري يترجم أفعال (المعلمة) وهي تشرح الدرس لتلاميذها، ويتقاطع الخطان فيتداخل ما هو علمي صرف على لسان (المعلمة) مع ما هو حياتي على لسان (منور)، لتشخص المسرحية من خلال كل ذلك قيمتي التضحية والصداقة في أنصع صورهما المؤثرتين .
" كانت بين عكلي ومنور صداقة كبيرة صحبة متينة رابطتهم حد ما يدس على خوه، واحد منهم ما يدير شيء بلا ما يشاور الآخر .
كانت بين عكلي ومنور مودة حلوة، محبة قلبية صافية، ما قادر الغير يشيطن بيناتهم ويخلوضها . يتناقشوا ويتناقذوا صح ولكن عمرهم ولا يتنايفوا. كانت بين عكلي ومنور صداقة كبيرة . عكلي رحمه الله توفى هذوا عشر سنين فايته ورغم هذا من شق الموت باقية رابطتهم علاقة حية..."[21]
وتقدم المسرحية في لوحتها الثالثة والأخيرة صورا من الخير المطلق تعكسه جوانب من حياة ثلاث شخصيات من عامة الناس، تعرضها اللوحة بشكل متلاحق، فكانت البداية بشخصية (المنصور) وهو عامل أحيل على التقاعد، فحزن كثيرا على فراق آلته الميكانيكية التي ألفها وألفته بعدما عاشرها طويلا حتى أكلت سنوات عمره، فنراه يناجيها ويبكي فراقها ويوصي بضرورة الحفاظ عليها، ثم تشخص اللوحة جانبا من معاناة (جلول الفهايمي) العامل بمصلحة حفظ الجثث بالمستشفى، فتصور سعيه الصادق في خدمة المصلحة العامة للمجتمع، كما تصور كفاحه المرير لفضح السلوكات والأساليب البيروقراطية التي تحول دون انتصار سياسة الطب المجاني، وهو الكفاح الذي عرضه لعقوبات مهنية من قبل مسؤوليه، فصار (جلول الفهايمي) رجلا عصبيا يعاني صراعا داخليا بين واجبه في الإخلاص لعمله ولمصلحة المجتمع، وبين ضغوطات مسؤوليه الذين يحاولون إلزامه بالكف عن إثارة النقائص وتوجيه الانتقادات، لكن (جلول الفهايمي) لم يعد قادرا على الصمت خاصة بعدما بلغ الإهمال قمته إثر اكتشافه رجلا حيا داخل ثلاجة غرفة مصلحة حفظ الجثث :
" أنا الفهايمي ما نسواش ..أنا متالبني الهم ..عندهم الحق اللي يسبوني ..عندهم الحق اللي مسميني الفضولي ..لو كان راني عايش في بلاد اخرى لو كان راهم سجنوني على طول العمر ..لو كان راهم حكموا علي بالإعدام .. ما نسواش أنا ..يلزمني السوط ..السوط ..اللكوط .. هراوة زبوج هذي هي بالقلبوزة واجبد أعطيه السوط على الظهر الاكتاف لجناب ..المقعد والركايب ..نستهل السقلة في الفم ..جلول الفهايمي بلية ..آفة ..اجتماعية ..اربطوا جلول الفهايمي أقتلوه ..علاش مخليني حي ؟ ..خيطوا لي فمي واقطعوا لي نفي تنجحوا ..والسوط ..السوط ..السوط."[22]
و في الختام تعرض المسرحية معاناة (سكينة) وهي عاملة في مصنع للأحذية، تصاب بالشلل من جراء قسوة ظروف العمل، فتضطر إلى التخلي عن عملها وسط حزن شديد ألم بزملائها الذين يحبونها كثيرا وينعتونها بعبارة (جوهرة المصنع) :
" جوهرة المصنع سكينة المسكينة
زحفت خلاص ما تقدر توقف على رجليها
ما تبرى ما ترجع لخدمة الأحذية
هكذا صرحوا بالأمس أطباء المستشفى
سموم اللصيقة هما أسباب البلية
جوهرة المصنع سكينة المسكينة "[23]
مسرحية الأجواد و رهان الفعل بالسرد:إن أول ملاحظة يمكن تسجيلها حول مضمون مسرحية (الأجواد) تتمثل فيما ذكره (فارس، نور الدين) حيث لاحظ أن بناءها العام ينوء بتكديس المواضيع والأحداث والمواقف، في ظل غياب التكثيف والتركيز المطلوب في فن الدراما عموما .[24]
فالدارس للمسرحية يجدها بالفعل جدارية تمثل قيم الخير في حياة الجماهير الكادحة مثلما وصفها صاحبها، لكنها جدارية واسعة جدا، حتى إنها قد تكون أوسع من مد العين والبصر.و إننا نعتقد أن الأسلوب السردي بتوظيف (القوال) الذي اعتمده عبد القادر علولة في صوغ مضمون (الأجواد)، قد جاء استجابة لاتساع الجدارية وغناها بالمعاني، ذلك أن هذه المسرحية " لا تستمد قيمتها من موضوعها وحده، بل من مستواها الفني كذلك، وما أضافه الكاتب من تجديد على مستوى الشكل والمضمون، بحيث يمتزجان في بناء فني متكامل."[25]
لقد أعاب (فارس، نور الدين)على مسرحية (الأجواد) طغيان السرد في أسلوبها على حساب الفعل والحوار، ورأى أن هذا السرد قد وفر لها إمكانيات روائية كبيرة، ولكن السرد جعل مضمونها تقريريا وصفيا سكونيا مجردا من العناصر الجدلية – الفعل والفعل النقيض والصراع والانتقاء – فالشخصية السردية في المسرحية – حسب رأيه- لم تتشكل وتتبلور من خلال ما تمارسه من أفعال ومواقف عيانية سببية ضمن تكوينها النفسي والاجتماعي والفكري وارتباطاتها الإنسانية بالأخرى، إنما شكلت على لسان الراوي بصورة وصفية إخبارية حرمت المتلقي من أسباب التعرف عليها وهي في حالة حضور يتجسد من خلال الفعل والحركة.[26]
ومن الواضح أن هذا الرأي الذي خلص إليه (فارس نور الدين) قد انطلق في مقاربته للمسرحية من خلال مفاهيم المسرح الأرسطي القائمة على تقديس التمثيل والتشخيص والفعل، في حين أن التجربة المسرحية التي تعرضها (الأجواد) تقوم أساسا على محاولة تخطي المفاهيم الأرسطية للمسرح، والمراهنة على تقديم شكل أو منظور مسرحي جديد يحاول الاستفادة من أشكال التعبير المسرحي في التراث الشعبي وهو ما لم يكن مهتما به في دراسات السابقين . ولذلك نعتقد أن مفاتيح المفاهيم الأرسطية للظاهرة المسرحية لا تصلح لفك الشفرات الجمالية لمسرحية (الأجواد) ذلك أن الأمر هنا – كما يوضحه عبد القادر علولة – لا يتعلق بمسرح يكرس تشخيص الحركة المرئية والخطية وما ينجر عن ذلك من إيهام، بل يتعلق بمسرح سردي يتجسد فيه الفعل المسرحي في الفعل المنطوق، بحيث يتزامن فعل الكلام مع الكلام في حالة فعل، بهدف تمكين الخطاب المسرحي من تحريك القدرات السماعية والتخيلية للمتلقي، فيبدع هو الآخر عرضه انطلاقا مما يراه ويسمعه، إنه ليس مسرحا إذاعيا، ولكنه مسرح يقدم - إلى جانب التمثيل الجسدي والحركي للحكاية - سنفونية من الألوان الصوتية تبهج النظر وتشنف الآذان .[27]
إن المنظور المسرحي الذي قدمه عبد القادر علولة في مسرحية (الأجواد) وقبلها في مسرحية (الأقوال) وبعدها في (اللثام)، لم يكن خيارا جماليا وليد مختبرات تنظيرية مسرحية، بل جاء استجابة لردود أفعال المتفرجين إزاء العروض المسرحية التي كان يقدمها لهم، وفي هذا المجال يقول علولة : "نبهتنا تجربة عرض مسرحية المائدة سنة 1972 إلى وجود ثقافة شعبية تتعامل مع تراثها وتطالب ببنيات مسرحية أخرى. لقد انطلقنا بالمسرحية بديكور ضخم وعرضناها في مختلف التعاونيات الزراعية، ولاحظنا أن الجمهور يحيط بفضاء العرض، ويشكل حلقة بصفة طبيعية ورويدا رويدا بدأنا في حذف أجزاء الديكور حتى يتسنى لكل المتفرجين مشاهدة العرض وهو ما أدى إلى تغيير شكل اللعب والتمثيل نظرا لوجود فضاء جديد، أضف إلى ذلك أننا كنا ننظم بعد العروض مناقشات ولاحظنا أن المتفرج يتذكر أقساما كبيرة من العرض ويكرر حوار الممثلين والمشاهد بدقة. هناك طاقات سمع حية وذاكرة شفوية.ولما خضنا تجربة اللاديكور وجدنا المتفرج يدير ظهره ويسمع النص أكثر مما يشاهده. ولما حللنا هذه التجربة تأكدنا من ضرورة البحث عن بنية مسرحية وأشكال تستجيب للثقافة الشعبية والخيال والمكونات الموجودة لدى الجمهور."[28]
ونستنتج مما تقدم أن المسرح – مثل كل الفنون – خطاب ليس بمقدوره إغفال طبيعة المتلقي،بكل ما تحمله هذه الطبيعة من ملامح ثقافية وحضارية ونفسية، حتى لنكأن عبد القادر علولة في مسرحية (الأجواد) ما زاد على أن أنصت بعمق لطبيعة المتلقي، فلبى طلبه واهتدى إلى منظور مسرحي جديد لم يكن من وحي النظرية بقدر ما كان من وحي التجربة .
لقد لاحظ عبد القادر علولة بأن المسرح الغربي يخاطب في المقام الأول حاسة البصر بالحركة والفعل وما ينجر عنهما من تمثيل وديكور، ثم تأتي في المقام الثاني حاسة السمع بالحواروالمؤثرات الصوتية، في حين أنه – علولة – قد لاحظ بأن طبيعة المتفرج الجزائري وربما العربي عموما تعطي الأولوية لحاسة السمع قبل حاسة البصر، فهي من خلال السمع تحرك طاقاتها التخيلية والتصورية، فلا تحتاج إلى تشخيص التفاصيل بدقة، قدر حاجتها إلى الكلمة الموحية بتلك التفاصيل، حيث يمكن عرضها بصفة تجريدية دون مبالغة في التشخيص الحرفي، ومن هنا كان التوجه نحو المسرح السردي بتوظيف القوال كبديل للمسرح الحركي الأرسطي .
لقد نهض (القوال) في مسرحية (الأجواد) بمجموعة من الوظائف الدرامية يمكن إبراز بعضها فيما يأتي :
$1- تقديم الشخصية المسرحية ووصف أبعادها الجسدية والاجتماعية والنفسية .
$1- استحضار ماضي الشخصية، وعرضه على المتلقي لمساعدته على استيعاب حاضر الشخصية وما تواجهه من صراع، مثلما رأينا ذلك في لوحة (عكلي ومنور) .
$1- استعاذة الحوادث الكبرى التي يصعب تمثيلها على خشبة المسرح، والاكتفاء بسردها على الأسماع، وهنا يلتقي دور (القوال) مع دور (الجوقة) في المسرح اليوناني.
$1- الربط بين الحوادث والمواقف الدرامية لتمتين البناء الهندسي العام للمسرحية .
-تقديم الاستطرادات الجميلة المناسبة للتعليق على الحوادث.
- إلقاء الأشعار والأغاني الشعبية المؤثرة ذات العلاقة المباشرة بالشخصية والحوادث التي تواجهها .
- تمثيل دور الشخصية المسرحية بغرض تكسير الإيهام وتحسيس المتلقي بأن ما يراه ويسمعه ليس حقيقة ولكنه مجرد تمثيل، وهو الرهان الذي حرص عليه المسرح الملحمي البريختي في مواجهة المسرح الأرسطي .
ومهما تعددت الوظائف الدرامية للقوال، فإننا نعتقد أن أهم وظيفة درامية قام بها في مسرحية (الأجواد) هي أنه منح كاتبها ومخرجها عبد القادر علولة فرصة بناء مسرحيته وفق منظور مسرحي جديد قوامه اللعبة بالسرد والحركة في مواجهة مسرح العلبة الأرسطي القائم على الحركة والإيهام.
الخلاصـة :
لقد أثارت مسرحية (الأجواد) نقاشا واسعا بين مؤيد ومعارض، حيث نجد (مباركي، بوعلام) يرى في شكلها قالبا مسرحيا جزائريا خاصا، حاول علولة من خلاله أن يرقى به إلى مستوى المسرح العالمي.[29]، في حين نجد بالمقابل من يرى أن هذه المسرحية ذات بناء مترهل حيث طغى الجانب السردي الإخباري فيها على الجانب الدرامي الحركي.[30] غير أن صاحب هذا الرأي نفسه يتدارك موقفه ليعترف في النهاية بأن هذه المسرحية " تصطف إلى جوار الأعمال المهمة والمتميزة في مسيرة المسرح الجزائري "[31]، كما نشير إلى ما ذكره (الأدرع، الشريف) من أن مسرح عبد القادر علولة يشكل محاولة أصيلة لإبداع كتابة مشهدية جزائرية.[32]
إن عبد القادر علولة قد عشق التراث، وبقدر ما التزم في مضمون مسرحية (الأجواد) بقضايا الطبقات الشعبية البسيطة من المجتمع، بقدر ما كان التزامه في بنائها بتوظيف التراث الشعبي، وبذلك يكون منظوره المسرحي بالمراهنة على (القوال) نتيجة حتمية لالتزاماته المضمونية والفنية على حد السواء، ومحاولة منه في البحث عن مسرح جزائري أصيل يراعي طبيعة المتلقي ويستجيب لحاجاته الاجتماعية وميولا ته الثقافية . وفي كل الأحوال فإننا لا نزعم قدرة مسرحية (الأجواد) أو غيرها من المسرحيات الجزائرية والعربية التي راهنت على تأصيل المسرح العربي، من خلال تجريب أشكال التعبير المسرحي في التراث – لا نزعم قدرتها – على تقديم تجربة مسرحية ناجحة يمكن أن تكون نموذجا حيا يتخذ بديلا للمسرح الأوروبي، ولكننا نزعم في مقابل ذلك أن مسرحية (الأجواد) هي – على الأقل - من التجارب المسرحية الناجحة في الجزائر والوطن العربي، في مجال الرهان على تأصيل المسرح العربي، حتى وإن كان هذا التأصيل قد تم داخل فضاء المسرح الأوروبي نفسه.
و في كل الأحوال فإن تجربة عبد القادر علولة في رهانه على السرد التمثيلي بتوظيف الظواهر المسرحية في التراث قد أغنت الحركة المسرحية العربية بعديد القيم الجمالية المستنبطة من المخزون الدرامي لتلك الظواهر التراثية، مثل توظيف القوال أو ما يسمى بمسرح السرد التمثيلي، واستعمال الديكور التجريدي لا التجسيدي، والاهتمام بالمسموع أكثر من المرئي، وتشجيع المسرحيين على تخطي النمط الأرسطي للفن المسرحي .
الهوامـش
* - الأجواد : من الجود أي الكرم ، جمعها أجاود ومفردها جواد .
[1]- الأدرع، الشريف : بريخت والمسرح الجزائري (مثال بريخت وولد عبد الرحمان كاكي) رسالة ماجستير، جامعة الجزائر 2008، ص 60.
[2]- بورايو، عبد الحميد : في الثقافة الشعبية الجزائرية (التاريخ والقضايا والتجليات)، منشورات الرابطة الوطنية للأدب الشعبي لاتحاد الكتاب الجزائريين ، الجزائر 2006 ، ص ص 63، 64 .
[3] - بورايو، عبد الحميد »رواية القصص الشعبي في الجزائر «، مجلة الرؤيا، ع 1، السنة الأولى، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر 1982 ص 18 .
[4]- كمال الدين، محمد : العرب والمسرح، مطبوعات دار الهلال ، عدد ، 293 ، مايو 1975 ، ص 79.
[5] -youssef rachid haddad :art du conteur, art de l'acteur, art du spectacle. Rédaction et diffusion . :cahiers théâtre Louvain -Arssand delcampe diffusion France, p 20.
[6]- تمارا الكسندروفنا بوتيتسيفا : ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة توفيق المؤدن، ط1، دار الفارابي بيروت، 1981، ص 60 .
[7]- بورايو، عبد الحميد : في الثقافة الشعبية الجزائرية (التاريخ والقضايا والتجليات)، ص 63 .
[8]- علولة، عبد القادر :" الظواهر الأرسطية في المسرح الجزائري " ترجمة بن العربي جمال ، مقدمة كتاب: من مسرحيات علولة (الأقوال،الأجواد، اللثام)، موفم للنشر، الجزائر 1997، ص 11 .
[9]- بورايو، عبد الحميد »رواية القصص الشعبي في الجزائر «، مجلة الرؤيا، ع 1، السنة الأولى، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر 1982، ص 21 .
[10]- youssef rachid haddad :art du conteur, art de l'acteur, art du spectacle .op. cit. p25.
* - تدل مادة (حكى) في لسان العرب، على التمثيل والأداء، (الحكاية) كقولك : حكيت فلانا وحاكيته، فعلت مثله، وقلت مثله .
- ينظر : ابن تميم، علي : السرد والظاهرة الدرامية ...، ص 36 .
[11]- ابن تميم، علي : السرد والظاهرة الدرامية ...، ص ص 278، 279 .
[12]- حمادة، إبراهيم : معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، ص 93 .
[13]- youssef rachid haddad :art du conteur, art de l'acteur, art du spectacle .op. cit. p90 .
[14]- علولة، عبد القادر : من مسرحيات علولة (الأقوال ،الأجواد، اللثام)، موفم للنشر، الجزائر 1997.
* - كانت جائزة أحسن تمثيل من نصيب الفنان القدير (سيراط بومدين) – رحمه الله – .
[15]- مباركي، بوعلام : توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري، رسالة ماجستير، جامعة وهران 2001، ص 87 .
[16]- علولة، عبد القادر : من مسرحيات علولة (الأقوال، الأجواد، اللثام)، لقاء مع عبد القادر علولة أجراه محمد جليد وترجمته إنعام بيوض، ص ص 234، 235 .
[17]- علولة، عبد القادر : الأجواد، ص 79.
[18] - المصدر نفسه، ص 82 .
[19]- المصدر نفسه ، ص 85 .
[20]- المصدر نفسه ، ص 102.
[21]- المصدر نفسه ، ص 104.
[22]- المصدر نفسه ، ص ص 132، 133.
[23]- المصدر نفسه ، ص 149.
[24]- فارس، نور الدين : " الأجواد بين الدراما والسرد – الحلقة الأولى "، جريدة المساء (الجزائر) العدد 867 ليوم 14/07/ 1988.
[25]- - مباركي، بوعلام : توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري، رسالة ماجستير، جامعة وهران 2001، ص 97 .
[26]- فارس، نور الدين : " الأجواد بين الدراما والسرد – الحلقة الثانية "، جريدة المساء (الجزائر) العدد 874 ليوم 22/07/1988 .
[27]- علولة، عبد القادر : من مسرحيات علولة (الأقوال، الأجواد، اللثام)، لقاء مع عبد القادر علولة أجراه محمد جليد، وترجمته إنعام بيوض، ص- ص 234 - 238 .
[28]- حوار أجريناه مع عبد القادر علولة، جريدة النصر (الجزائر)، عدد 4820، ليوم 13 ماي 1989.
[29] - مباركي، بوعلام : توظيف التراث الشعبي في المسرح الجزائري، رسالة ماجستير، جامعة وهران 2001، ص 75.
[30]- فارس، نور الدين : " الأجواد بين الدراما والسرد – الحلقة الثانية "، جريدة المساء (الجزائر) العدد 874 ليوم 22/07/1988.
[31]- فارس، نور الدين : " الأجواد بين الدراما والسرد – الحلقة الثانية ".
|